إصلاح الإعلام.. تساؤلات ومخاوف ومآلات

مارس
01

الكاتب: عبدالسلام فاروق
المصدر: Bit.ly/2TvnCy6
“الإعلام العربي يواجه تهديدا وجوديا لا بتغير طبيعة صناعة المحتوى وتقديمه وتلقيه، بل بحكم التنافسية العالمية.”

الإعلام الغربي يشهد اليوم تغيراً نوعياً هائلاً لا نكاد نستشعره أو نهتم به.

عشرات الكتب والإصدارات والتقارير والأبحاث تتحدث عن مآلات الإعلام في ظل التحولات الهائلة في مدارات الحوكمة والتواصل والتقنية وأذواق الجماهير التي تتغير الآن كل ساعة لا كل عام!

تساؤلات ومخاوف حول مدى تأثير ثقافة الإنترنت والفضائيات على استقرار سوق الصحافة المقروءة والإعلام الورقي. تساؤلات تتهامس في قلق: هل يودع العالم عصر المطبوعات باهظة التكلفة ليستقبل عصر المرئيات والتقنيات والمكتبات الرقمية شبه المجانية؟ والجواب يتأرجح بين طرفي نقيض، أحدهما شديد التفاؤل بأن التطور لن يلغي القديم وأن الكتاب والجريدة باقيان. والآخر يؤكد أن الموجة كاسحة ولا مفر من الانقياد مع تيار التقدم التقني الجارف أو البقاء في عتمة الجب حتى الفناء الحتمي أو الانقراض!

لديهم إحصائيات مقلقة تدعوهم لمثل هذا التساؤل، منها أن جمهور الصحافة المقروءة في أميركا يتناقص باستمرار وباطراد مخيف، ففي حين كانت نسبة قراء الصحف تبلغ 78% من الشعب الأميركي في عام 1970، تقلصت النسبة إلى 40% في عام 1994، ثم إلى 34% في عام 2006. وما زالت تتناقص لدرجة أن بعض الصحف الكبرى في أميركا وأوروبا أوقفت إصداراتها المطبوعة عديمة الجدوى اقتصادياً مكتفيةً بالإصدار الإليكتروني الأفضل من حيث الانتشار والعوائد!

في بلادنا لدينا تساؤلات مختلفة واهتمامات أخرى، ولا نعترف بأن هناك أزمة مقبلة لا في إعلامنا ولا في صحافتنا المقروءة. كل شيء تمام ومستقر والأمور تسير نحو الأفضل. هكذا ننجح في تجاوز الأزمة بإنكار وجودها!

هل هناك أزمة إعلام؟

ليست لدينا أزمة واحدة، بل أزمات. وهي ليست أزمة حديثة بل تراكمية حدثت عبر عدة عقود! إذ أن ما يجري في أروقة المطبخ الإعلامي يختلف كثيراً عما يبدو ظاهراً على سطح الأخبار اليومية وبرامج التوك شو التي تعطي إيحاءً كاذباً بأن الإعلام العربي بخير ويسير بخطى ثابتة في الطريق الصحيح، رغم أن الواقع يشير إلى العكس تماماً. فلا الإعلام بخير ولا هو يسير نحو التعافي والتطور بل إلى طريق مسدود.

الساحة تعج بعشرات الصحف والمجلات والفضائيات دون مردود أو مغزى، مجرد صداع وطنين بلا طحين، وتدوير لأفكار مستهلكة وقديمة ولا جديد على الساحة رغم الإمكانيات الهائلة المتاحة، ورغم ملايين الجنيهات والدولارات والريالات الملقاة هنا وهناك بلا عائد حقيقي.

ليس الحديث هنا عن فساد مالي وإداري ثبت من خلال وقائع سابقة أنه موجود ومتغلغل في الكيان الإعلامي، ولا عن التحزبات وصراعات المصالح وراء الكواليس، وهي أمور منتشرة ومدمرة وموروثات متراكمة على مدى عقود مضت وربما يأتي اليوم الذي نتخلص فيه من تلك الآفات على يد الأجهزة الرقابية والتشريعية والتنفيذية. لكن الأهم أن نبحث فيما يستطاع تغييره داخل المنظومة الإعلامية من رجالها أنفسهم.. مثل التزام المهنية والحيادية ومواكبة التطور وتدريب الكوادر وتدعيم الكيان الإعلامي بالإمكانيات وتطعيمه بالعقول والكفاءات. كلها أشياء من الممكن تداركها لإصلاح ما يمكن إصلاحه في المنظومة الإعلامية المأزومة بشرط أن نعترف أولاً بوجود المشكلة حتى يتسنى لنا التفكير في الحلول.

ما الضرر؟ وما الضرورة؟

وراء الكواليس ثمة محاولات إصلاح تحدث على مستوى المؤسسات الإعلامية والصحفية الخاصة والحكومية في شكل إقالات لبعض الموظفين الكبار، أو بإعادة هيكلة المؤسسات الصحفية وتسريح العمالة الزائدة لترشيد النفقات، أو بغلق بعض النوافذ الصحفية كالمجلات والصحف قليلة التوزيع أو بعمليات البيع أو الدمج أو الشراكة كما حدث مؤخراً مع عدد من المؤسسات الإعلامية.

كلها لا تعدو كونها عمليات ترقيع أو رتق لعيوب إدارية أو اقتصادية أو فنية، بينما الوسط الإعلامي بأسره يعاني، ولا تصلح عمليات الترقيع لإحداث التعافي.

أصحاب المصالح يقولون: لا ضرورة لتطوير منظومة الإعلام، بينما الضرورة ترقى إلى حد صراعات البقاء والوجود. والكسالى يقولون: لا ضرر من الاستمرار على نفس النمط التقليدي القديم، بينما الصدأ والتآكل يكاد يقضي على منظومة الإعلام الرافضة لأي تغيير حقيقي يضعها على الخريطة العالمية.

أين نحن من الخريطة التنافسية؟

هناك فجوة ضخمة بين معايير النجاح، أو ما نعتبره نجاحاً، في وسطنا الإعلامي الإقليمي، وبين معايير التفوق والتنافس العالمي.. فجوة لا تزال تتسع باستمرار ما دمنا نفضل التسطيح والإثارة على الكفاءة والمهنية.

إعلامنا يخسر باستمرار، يخسر جمهوره وبالتالي أرباحه.. وسيظل نزيف الخسائر متواصلاً مع الإصرار على التمسك بمعايير النجاح المغلوطة.

ولكي نجيب بصدق وصراحة عن موقعنا من التنافسية الإعلامية العالمية، دعنا نجيب أولاً عن موقعنا من الحيادية والنزاهة وقوة التأثير وسعة الانتشار والقدرة على خلق التفاعل والجماهيرية وتشكيل الوعي الجمعي.

ماذا عن تدريب الكوادر وتطوير الملكات والإمكانيات لمواكبة الطفرات التقنية الهائلة لدي الإعلام الغربي؟ هل لدينا تصور لمستقبل الإعلام أو منهج أو رؤية استراتيجية أو حتى ميثاق شرف يلتزم به الإعلاميون طواعيةً أو قسراً؟

إننا نسير عكس التيار عندما نغلق مواقع صحفية إليكترونية لا لشيء إلا لعجزنا عن مسايرة واستغلال هذا المورد الإعلامي الحيوي. بينما يتجه العالم كله إلى الإعلام الإليكتروني والميديا الرقمية!

معضلة الصحافة الرقمية

استحوذ الإعلام الرقمي البديل على اهتمام قطاعات واسعة من المتابعين من مختلف الشرائح العمرية والاجتماعية، رغم افتقاره إلى المصداقية والتوثيق واعتماده على الشائعات والإثارة الزائفة. والسبب أنه نوع رخيص من الإعلام قليل الكلفة لمستخدميه، كما يتميز بالمرونة وتجدد المضمون وجاذبية الشكل. فالخبر الواحد قد يتجدد على مدار الساعة بأكثر من شكل وطريقة، مصحوباً بالصور ومقاطع الفيديو، لهذا يحظى الإعلام الرقمي بجمهور عريض يفوق الصحافة المطبوعة بكثير.

ورغم تلك المزايا لم تتمكن أكثر المؤسسات الصحفية من استغلال النوافذ الإلكترونية لتحقيق عوائد ومكاسب مجزية. فرغم أن الصحافة الإلكترونية هي المفضلة لدى الجمهور بسبب مزاياها، إلا أنها تُعدّ الأسوأ لدى المؤسسات الصحفية بسبب عيوبها الكثيرة: فالصحيفة الإلكترونية تتطلب توظيف كوادر صحفية وفنية من المتخصصين يعملون على مدار الساعة، ما يعني أنها عالية التكلفة، خاصةً وأنها تحتاج للتحديث الدائم بالخدمات والتطبيقات والبرامج، كما تحتاج للتسويق والمتابعة اليومية لتحقيق الانتشار، وهي أمور لا تتوافر للكثير من الصحف. مما يضطرها للاكتفاء بالصحيفة الورقية، أو بموقع إخباري شبه مجاني لا يحتوي على أية تطبيقات أو تحديثات أو موضوعات متجددة. موقع بلا قيمة ولا عوائد، لمجرد التواجد فقط!

الجماهيرية طبقاً لتصنيف “أكابولكو”

الجمهور هو القوة الحقيقية في عالم الإعلام.

فالمحطة الفضائية الأفضل هي التي تحظي بأعلى نسب مشاهدة ومتابعة، والصحيفة الأولى هي صاحبة التوزيع الأكبر، والخبر الأهم لدى المواقع الإلكترونية هو الأكثر تداولاً وقراءة ومشاركة وإعجاب. اللعبة الإعلامية كلها تعتمد على الناس ومدى تفاعلهم وتأثرهم بالوجبة الإعلامية المقدمة لهم.

يفرق قاموس ويبستر بين ثلاثة مفاهيم مختلفة للجمهور: الجمهور كحشد أو كهدف أو كوسيط. وتستهدف وسائل الإعلام المفاهيم الثلاثة جميعها، فهي تهتم بالرقم العام للمتابعين، أي بالحشد. وتهتم بتوسيع رقعة المتابعة، أي باستهداف هذا الحشد. وتهتم ثالثاً وأخيراً بالجمهور كوسيط دعائي وناقل للخبر والمعلومة الصحفية والإعلامية، وهو ما يسهم بشكل غير مباشر في زيادة نسبة المتابعات.

والتصنيف العام للجمهور يتخذ أكثر من شكل: فهناك تصنيف طبقاً للفئة العمرية أو تبعاً للشريحة الاجتماعية أو للنوع أو للعرق أو للانتماءات الفكرية أو المذهبية. ويتحدد التصنيف تبعاً للاتجاهات التي تتبناها المؤسسة الإعلامية. إلا أن هناك دراسات حديثة لجأت لاستقصاء أثر الوجبة الإعلامية أو الصحفية اليومية في خلق حالة من الاهتمام الشعبي الجمعي، سواء بالأخبار المهمة أو بالقضايا الحيوية. بدأت هذه الدراسات في أواخر الستينيات بما يُدعَي “نظرية ترتيب الأجندة”، أو دراسة “شابل هيل”، وهو المكان الذي أجريت فيه الدراسة بولاية شمال كارولينا. وانتهت الدراسة إلى توضيح مدى قدرة الإعلام على ترتيب أجندة أولويات القضايا لدى الجمهور من خلال لعبة الضوء والظل، حيث تستأثر قضايا بعينها على الاهتمام الإعلامي، ويتضح أنها هي نفسها القضايا التي تحظى باهتمام الجمهور! حتى لو كانت غير منسجمة ولا متوافقة مع الواقع!

التصنيف الأحدث لتلك العلاقة بين الإعلام والجماهيرية يُدعَى تصنيف “أكابولكو” والذي اعتمد على نتائج أكثر من 400 دراسة عن ديناميكيات أولويات الأجندة الإعلامية وتوصل إلى اختزال العلاقة في أربعة مقاييس رئيسية تُعدّ بمثابة أدلة إرشادية لبوصلة الأخبار والقضايا الجماهيرية؛ لإبراز كيفية التمحور حول السبق الصحفي أو الخبطة الإعلامية أو القضية القومية لاستغلالها إعلامياً بالشكل الأمثل.

الاهتمام بمثل تلك الدراسات يعطينا تصوراً حول الإعلام كصناعة احترافية ذات تأثير عميق وممتد، لا كمهنة تقليدية روتينية عديمة الثمرة.

مقامات التأثير والفاعلية

تتفاوت قدرة الوجبة الإعلامية المقدمة التأثيرية بين مجرد الإخبار الفردي= بالمعلومة إلى مقام تشكيل الوعي المجتمعي. كما يتفاوت تأثر المتابعين بالمادة الإعلامية بين عدة درجات تبدأ بالتفكير المجرد، وتتدرج إلى الجدل والنقاش، ثم إلى التفاعل والتواصل، وتنتهي إلى خلق حالة من الإحساس الذاتي والمجتمعي بالمسئولية تجاه القضية الإعلامية المطروحة إلى حد تناقلها والتعديل عليها ونشرها بما يحول الجمهور نفسه إلى إعلام بديل.

هناك آليات محددة لخلق حالات التأثر بالمادة الإعلامية كالتكرار والتكثيف والإبهار وحسن العرض والفكاهة، وما يبقَى في ذهن المتابع بعد عرض المادة هو الذي يبرهن على مدى تأثره بتلك المادة. ما يبقَى في الذاكرة، أو ما يتسلل إلى اللاوعي، أو ما يتمكن من تعديل الوعي والسلوك.

تلك الحالة الأخيرة هي أعلى درجات التأثير الإعلامي التي يتحول فيها الإعلام إلى مصدر تنويري ومعرفي. وهي لا تحدث إلا في ظل مادة تتمتع بالمصداقية والنزاهة والعمق وقوة التأثير.

ألوان وأشكال

هناك ثلاثة نماذج رئيسية من الإعلام: إعلام السوق.. والإعلام الدعائي.. وإعلام الحقائق. النموذج الأول – إعلام السوق- هو النوع الذي يتخذ من ذوق الجمهور بوصلة يتحرك على هداها. لا يعبأ إلا بالأرباح كمحرك رئيسي للمادة الإعلامية المقدمة. لهذا لن يجد مانعاً من اختراق وتجاوز كل معايير المهنية والحياد والأخلاق من أجل تحقيق هدفه الأوحد وهو المال. هذا النوع من الإعلام الشعبوي الرخيص باهت الأثر، وغير قادر على الوصول إلى العالمية لأنه يتخلى عن معايير الإعلام المتفق عليها في سبيل تحقيق غايته الرخيصة.

نموذج آخر هو الإعلام الدعائي، أو الإعلام الموجَّه المؤدلج.. وهو نوع من الإعلام المتوحد الذي يدور في فلك التحزب والتعصب والتمحور حول فكرة أو تيار، ويظل يخدم تلك الفكرة ويدعو لها دون الاكتراث للتعددية الطبيعية والاختلاف الغريزي في طبائع البشر وأفكارهم. يظل تأثير هذا النوع من الإعلام محدوداً بالمعتنقين لأفكاره دون غيرهم. وقدرته على اختراق الحدود للوصول إلى العالمية معدومة، بل قدرته على التنافسية الإقليمية والمحلية ضعيفة وقاصرة.

النوع الثالث والأخير هو إعلام الحقائق أو إعلام الرسالة والمبدأ. وهو نوع من الإعلام المحايد المتحرر المستقل، لا يخدم فكرة بعينها ولا ذوقاً محددا، بل يستهدف تقديم الحقيقة البسيطة المجردة دون تزييف أو إضافة أو تحوير. وهو النوع الوحيد القادر على اختراق الحدود، بل واختراق الزمن والوصول إلى أوسع جمهور ممكن في الحاضر والمستقبل. وتندرج تحت هذا الصنف من الإعلام عدة أشكال أخرى فرعية: كالإعلام الوثائقي، والإعلام التأريخي، والإعلام التفاعلي.

ماذا يحدث لو..؟

دعنا نتخيل هذا السيناريو.

الإعلام العربي بصورته الحالية، فضائياته وصحافته، برامج التوك شو المعتادة.

هذا الإعلام بكل ما فيه بات عالمي الانتشار، وباتت موضوعاته السطحية ومضامينه التافهة التقليدية هي بضاعته التي يقدمها يومياً للمشاهدين في كل مكان بالعالم، فكيف سيفكر العالَم نحونا وعنا؟

ولنتخيل الصورة بشكل معكوس.

الإعلام الغربي وقد انتقل بكل آلياته وإمكاناته وكوادره إلى أروقة مؤسساتنا الإعلامية. وتم استبدال كل الإعلام القديم بالفكر الجديد، واستبدال كل الوجوه الإعلامية المشهورة ذات الأجور الخرافية بوجوه إعلامية أخرى أكثر كفاءة وأقل أجراً. فكيف ستكون صورة الإعلام؟ وهل سيظل المحتوى الإعلامي سطحياً كما كان؟

 

لا يوجد ردود

أضف رد